:: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ::
أقدم لكم الجزء الثالث من سلسلة معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض غلام صغير، لحادث غير مجرى حياته، فقد كان يعيش مع أهله، ضمن القبائل العربية، المقيمة
على نهر الفرات بالعراق، فأغار عليهم الرومان، واقتادوا بعض الأسرى، ومعهم ذلك الغلام الصغير،
حملوهم إلى بلادهم، فعاش ذلك الطفل غريبا، يحلم بالعودة إلى أهله وقومه.
ظل الغلام يغالب شوقه في بلاد الرومان، التي عاش فيها فترة من الزمن، حتى أثرت على نطقه للغة
العربية، فكان في لسانه: ( لكنة ) ظلت معه بقية عمره.
كانت له أخت اسمها أميمة ، اشتد حزنها لفراق أخيها، الذي لا تعلم من أمره شيئا، لم تفقد الأمل في
العثور عليه، ولم تغب صورته عن عقلها وقلبها، وكأنه ماثل أمامها بوجهه الأحمر، وشعره الكثيف، لذا فإنها
كانت تخرج في المواسم باحثة عنه ، وسأل القادمين من كل مكان ، لعل أحدا يدلها عليه ، وكان عمه
يفعل ذلك أيضا ، ولكن دون جدوى .
ظل ذلك الغلام في بلاد الرومان ، حتى اشترته قبيلة اسمها (كلب) قدمت به إلى مكة ،فاشتراه رجل
كريم من أثريائها اسمه عبدالله بن جدعان ، فأعتقه وعاد حرا طليقا ، بعد ذل العبودية . كان ذلك الغلام ،
هو "صهيب الرومي ".
فلما بعث الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، نبيا ورسولا ، وبدأ يدعو الناس سرا إلى الإسلام في
مكة ، كان صهيب رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام ، كان من المستضعفين في مكة ، أذاقه
الكافرون أشد العذاب ، ولكنه ظل صابرا ، فلم تلن عزيمته .
مرت الأيام ، وهاجر رسول الله صلى اله عليه وسلم إلى المدينة ، وهاجر بعض أصحابه الكرام رضوان
الله عليهم . كان صهيب مشتاقا للهجرة ، فقد حاول ذلك ، هم بالخروج من مكة مهاجرا ، ولكنهم
منعوه بالقوة ، وبقي تحت الحراسة ، كي لا يخرج مهاجرا إلى المدينة .
كان يفكر في حيلة للخلاص منهم ، فلما أقبل الليل ، تظاهر بأنه يعاني آلاما في بطنه ، راح يقوم ويقعد
، فلم يهتم الحراس بأمره ، ولم يتقدم أحد لعونه، وتخفيف ألمه ، بل وجدوها فرصة للنوم في تلك
الليلة لأنه مشغول بنفسه ، ولن يستطيع الهروب منهم .
استلقى الحراس في استرخاء ، واستسلموا لنوم عميق ، خفتت أصوات صهيب حتى تلاشت ، فلم
يعد يطلق صيحات الألم ، أخذ يتلفت حوله ، بدأ يتحرك في حذر ، كي يغادر المكان من غير أن يشعر به
واحد منهم ، حتى مضى بعيدا عنهم .
أخذ صهيب سيفه ورمحه ، وحمل كنانة سهامه ، ثم ركب راحلته ، وخرج مغادرا مكة ، فلما استيقظ
الحراس من نومهم ، لم يجدوه في مكانه ، بحثوا حولهم ، فلم يجدوا له أثرا ، أيقنوا أنه فر هاربا ،
أدرك الكفار أنه خرج مهاجرا ، استعد بعضهم لملاحقته ، أخذوا سيوفهم ، وركبوا دوابهم ، وانطلقوا
خلفه مسرعين ... فلما اقتربوا منه ، أدرك أنه لا مفر من المواجهة ، قرر ألا يستسلم لهم .
فإذا كان الروم قد اختطفوه من قبل ، فقد كان في ذلك الوقت غلاما صغيرا ، لا حول له ولا قوة ، أما
الآن .. فقد اختلف الأمر ، فهو رجل قوي شجاع ، وفوق ذلك ، أنه خرج مهاجرا في سبيل الله ، باع
لله نفسه ، فلا يبالي ما يصيبه في سبيل تلك الغاية السامية ، ولكنه لن يموت قبل أن يوقع خسائر
فادحة عندهم ، سيحصد الكثيرين منهم ، قبل أن يلقى الله شهيدا سعيدا ، فماذا حدث ؟
نزل من فوق راحلته ، ثم أخرج السهام التي كانت في كنانته ، نثرها أمامه ، ثم أطلق صوته مدويا
كالرعد ، محذرا إياهم قائلا : يا معشر قريش لقد علمتم أني من أرماكم رجلا ..
أني من أمهركم في الرماية ، ثم أقسم قائلا : (وأيم الله ) لا تصلون إلي ، حتى أرمي بكل سهم
معي في كنانتي .
يا له من تحذير مخيف ! فهم يدركون أن كل سهم يطلقه ، سيقضي على رجل منهم ،لم ينته
التحذير عند هذا الحد ، بل حذرهم مما سيفعله بعد أن تنفذ سهامه ، حذرهم من سيفه قائلا :
ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شئ !
لم ينته الأمر بالتهديد ، بل عرض عليهم عرضا آخر ، فقد كان مشتاقا تواقا للقاء الحبيب المصطفى
صلى الله عليه وسلم في المدينة ، تمنى أن يواصل رحلة الهجرة ، لذا كان على استعداد أن يدفع
فيها كل ماله ... وما العجب في ذلك ، فقد استعد أن يدفع حياته ثمنا في مواجهة أعداء الله ، لذا
فقد واصل حديثه معهم قائلا : افعلوا ما شئتم ... وإن شئتم ، دللتكم على مالي وثيابي بمكة
وخليتم سبيلي...وتركتموني أواصل رحلتي .
قالوا : نعم ، قبلوا ذلك العرض الذي عرضه عليهم ، عادوا إلى مكة ، فلما وصلوا إلى داره ، وقف
شامخا ، أشار إلى عتبة بابه ، فانحنى كل منهم بحثا عن المال ، ظلوا يحفرون حتى استخرجوا صرة ،
فتحوها في لهفة ، وجدوا بها ذهبا ، فرحوا ببريقه ، أما هو ، فقد كان قلبه معلقا برسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، كانت نفسه تهفوا للقائه .
انطلق صهيب نحو المدينة ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : (ربح البيع أبا يحيى..
ربح البيع أبا يحيى ) ...إنها صفقة رابحة ، فقد أعطى كفار قريش ماله ، كي يظفر بالهجرة إلى رسوله
الكريم صلى الله عليه وسلم .
ولكن من الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما حدث ؟ قال صهيب رضي الله عنه: والله
ما سبقني إليك أحد يا رسول الله ، وما أخبرك بذلك إلا جبريل عليه السلام ، جبريل هو الذي أخبر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفاصيل ما حدث لصهيب ، فكان ذلك من دلائل النبوة .
انضم صهيب إلى جند الله ، جاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع غزواته ، شهد غزوة
"بدر " وما بعدها من غزوات ،وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسبق ، فقال صلى الله
عليه وسلم :( أنا سابق العرب إلى الجنة ، وصهيب سابق الروم إلى الجنة ، وبلال سابق الحبشة
إلى الجنة ، وسلمان سابق فارس إلى الجنة) .
صلى الله على سيدنا محمد ، عليه الصلاة والسلام